الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} قلت: {الحاقة}: مبتدأ، وجملة الاستفهام خبر، والأصل: الحاقة ما هي؟ فوضع الظاهر موضع المضمر؛ تفخيماً لشأنها، وتهويلاً لأمرها، و«أدْرَى» يتعدى إلى مفعولين، علق عن الثاني بالاستفهام. يقول الحق جلّ جلاله: {الحاقةُ} أي: الساعة الواجبة الوقوع، الثابتة المجيء، التي هي آتيةٌ لا ريب فيها، من: حقّ يحِقُّ: وجب، أو: التي يحق فيها الحقوق من الثواب والعقاب، أو: التي تحق فيها الحقائق وتُعرف، من: حقه: إذا عرف حقيقته، جعل الفعل لها مجازاً، وهو لِما فيها من الأمور، {ما الحاقةُ} أي: ما هي الحاقة، فهي من الأمور التي يُستفهم عنها؛ لغرابتها وهول مطلعها، وأكد كذلك بقوله: {وما أدراك} وأيّ شيءٍ أعلمك {ما} هي {الحاقة}، يعني: أنك لا علم لك بكنهها؛ لخروجها عن دائرة علوم المخلوقات، على معنى: أن عظم شأنها، ومدى هولها وشدتها، بحيث لا يكاد يبلغه درايةُ أحد ولا وهمُه، وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك. ثم ذكر وبال مَن كذّب بها، فقال: {كذبت ثمودُ وعادٌ بالقارعة} أي: بالحاقة. فوضعت القارعة موضعها لأنها من أسماء القيامة، كالحاقة. وسميت بذلك؛ لأنها تقرع الناسَ بفنون الأفزاع والأهوال، وتقرع السماءَ بالانشقاق والانفطار، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم بالطمس والانكدار. قال أبو السعود: والجملة استئناف مسوق لإعلام بعض أحوال الحاقة له صلى الله عليه وسلم إثر تقرير أنه ما أدراه بها أحد كما في قوله تعالى: {وَمَآ أّدْرَاكَ مَاهِيَة نَارٌ حَامِيَةُ} [القارعة: 10، 11] ونظائره، خلا أن المبَّين هناك نفس المسؤول عنها، وها هنا حال من أحوالها، كما في قوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيّلَةٌ القدر لَيّلَةُ القدر خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 2، 3]، كما أن المبيَّن هناك ليس نفس ليلة القدر، بل فضلها وشرفها، كذلك المبيّن هاهنا هولُ الحاقة وعظم شأنها، وكونها بحيث يحق إهلاك مَن يُكَذِّب بها، كأنه قيل: وما أدراك ما الحاقة كذّب بها عاد وثمود فأُهلكوا. ه. {فأمّا ثمودُ فأُهلكوا بالطَّاغية}؛ بالوقعة المتجاوزة للحدّ في الشدة، وهي الصيحة أو الرجفة، وقيل: هي مصدر كالعاقبة، من المعاقبة، أي: بسبب طغيانهم وعصيانهم، والأول أنسب بقوله: {وأمّا عادٌ فأُهلكوا بريحٍ صَرْصَرٍ} أي: شديدة الصوت، لها صرصرة، أو شديدة البرد، تحرق ببردها، من الصِّر، كرّر بردها حتى أحرقهم، {عَاتيةٍ}؛ شديدة الغضب، كأنها عتت على خُزّانها فلم يضبطوها بإذن الله، غضباً على أعداء الله. قال صلى الله عليه وسلم: «ما أرسل الله نسفة من ريح إلاّ بمكيال، ولا قطرة من ماء إلاّ بمكيال، إلاّ يوم عاد ويوم نوح، فإنَّ الماء طغى على الخُزان، وكذلك الريح، طغت على خُزانها» ثم قرأ الآية. أو طغت على عاد فلم يقدروا على ردها. {سَخَّرَها عليهم} أي: سلَّطها عليهم، وهو استئناف جيء به لبيان كيفية إهلاكهم بها، {سَبْعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام حُسوماً} أي: متتابعات، جمع حاسم، كشهود وشاهد، تمثيلاً لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكيّ كرة بعد أخرى حتى ينحسم الداء، أو: محسمات، حسمت كل خير واستأصلته، أو قاطعات قطعت دابرهم، وهو حال، ويجوز أن يكون مصدراً، أي: تحسمه حسوماً، أي: تستأصلهم استئصالاْ، ويؤيده قراءة الفتح، وكانت العرب تُسمي هذه الأيام أيام العجوز، من صبيحة الأربعاء إلى غروب الأربعاء الآخر، وإنما سميت بذلك؛ لأنّ عجوزاً من عاد توارت في سِرب، فانتزعَتها الريحُ في اليوم الثامن، فأهلكتها. وقيل: سميت عجوزاً لأنها في عَجُز الشتاء، أي: آخره. وأسماؤها: الصِنُّ، والصنْبَرِ، والوَبْر، والآمر، والمُؤْتمر والمُعلِّل، ومُطْفىء الجمْر، واليوم الثامن مكفي الظُّعن. {فترى القومَ} إن كنت حاضراً حينئذ {فيها} أي: في تلك الليالي والأيام، أو في مهابَّها، أو في ديارهم {صَرْعَى}؛ موتى هلكى، جمع صريع، {كأنهم أعجازُ نخلٍ} أي: أصول نخل، جمع نخلة، {خاويةٍ}. ساقطة، أو بالية متآكلة الأجواف، وكانت أجسامهم طوالاً، تبلغ مائة ذراعٍ، أو مائتين، ولذلك شُبّهوا بالنخل، {فهل ترى لهم من باقية} أي: بقاء، فيكون مصدراً، كالطاغية، أو مِن نفس باقية. والله تعالى أعلم. الإشارة: الحاقة هي تجلِّي الحقيقة الأحدية، وظهور الخمرة الأزلية، لقلوب العارفين؛ لأنها تُحق الحق وتُزهق الباطل، تظهر بها حقائق الأشياء على ما هي عليه في الأصل. قال الورتجبي: الحاقة يوم تحق حقائق الأمور عياناً، لا يبقى فيها ريب أهل الظنون، ينكشف الحق لأهل الحق، ولا معارضة للنفس فيها، ويتبين للجاهلين أعلام ولاية العارفين. ه. ثم عظَّمها وهوَّل أمرها، فقال: {ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة} لا يدريها إلاّ الشجعان من الرجال الأقوياء، والكمَّال، كما قال الجيلاني رضي الله عنه: وإيَّاكَ جَزعاً لا يَهُولُكَ أمْرُها *** فَمَا نَالَها إلاَّ الشُّجَاعُ المُقَارعُ ثم ذكر أنَّ مَن أنكرها أو كذّب بوجودها من النفوس العادية، والقلوب القاسية، يهلك في مهاوي الفروقات، برجفة الوساوس والخواطر، أو رياح الفتن الباطنة والظاهرة، سخّرها عليهم سبع ليالٍ على عدد الجوارح السبعة، وثمانية أيام. قال القشيري: أي: أيام كاشفات لسبع صفات الطبيعية، وهي: الغضب، والشهوة، والحقد، والحسد، والبُخل، والجُبن، والعجب، والشره، حُسوماً، أي: تحسم، وتقطع أمور الحق وأحكامه من الخيرات والمبرّات. ه.
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)} يقول الحق جلّ جلاله: {وجاء فرعونُ ومَنْ قبله} أي: ومَن تقدمه. وقرأ البصري والكسائي: (ومَن قِبَلَهُ) بكسر القاف، أي: ومَن عنده من أتباعه وجنوده، ويؤيده أنه قُرىء «ومن معه». {والمؤتفكاتُ} وهي قُرى قوم لوط؛ لأنها ائتفَكت، أي: انقلبت بهم، أي: وجاء أهل المؤتفكات {بالخاطئة}؛ بالخطأ، أو بالفعلة، أو الأفعال الخاطئة، أي: ذات الخطأ، التي من جملتها: تكذيب البعث والقيامة. {فَعَصَوا رسولَ ربهم} أي: عصت كل أمة رسولها، حيث نهوهم عما كانوا يتعاطونه من القبائح، {فأخَذّهم} أي: الله عزّ وجل {أخذةً رابيةً} أي: زائدة في الشدة، كما زادت قبائحهم في القُبح، من: ربا الشيء إذا زاد. {إِنَّا لَمَّا طغى الماءُ}؛ ارتفع وقت الطوفان، على أعلى جبل في الدنيا، خمسة عشر ذراعاً، بسبب إصرار قوم نوح على فنون المعاصي، ومبالغتهم في تكذيبه عليه السلام وما أوحي إليه من الأحكام، التي من جملتها أحوال الحاقة، {حملناكم} أي: في أصلاب آبائكم، محمولين {في الجارية}؛ في سفينة نوح عليه السلام، والمراد: حملهم فيها أيام الطوفان، فالجار متعلق بمحذوف حال، لا صلة لحملنا، أي: رفعناكم فوق الماء، حال كونكم محمولين في السفينة بأمرنا وحفظنا. وفيه تنبيه على أنَّ مدار حفظهم محض عصمته تعالى، وإنما السفينة سبب صوري. {لِنجعلَها} أي: الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين {لكم تذكرةً}؛ عِبرة ودلالة على كمال قدرته تعالى وحكمته، وقوة قهره، وسعة رحمته {وتَعِيَها} أي: تحفظها. والوعي: أن تحفظ الشيء في نفسك، والإيعاء: أن تحفظه في غيرك، {أُذنٌ واعيةٌ} أي: أُذن مِن شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه، بتذكيره وإشاعته والتفكُّر فيه، ولا تضيعة بترك العمل به. والتنكير لدلالة قلتها. قال قتادة: الأذن الواعية هي التي عقلت عن الله، وانتفعت بما سمعت. وعن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألتُ الله تعالى أن يجعلها أذنَك يا علي» قال: فما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ونسيته قط. الإشارة: وجاء فرعون النفس، ومَن تقدمه من شواغل الدنيا، ووساوس الشيطان، أو مَن قِبَلَهُ من هامان الهوى، وقارون الحظوظ، والمؤتفكات: القلوب المُنَكَّسَةِ عن قبول الحق، أتت بالخاطئة، وهي الإصرار على الوقوف مع العوائد والحظوظ، فعَصَوا رسولَ ربهم، وهو مَن يدعوهم إلى الله، بالخروج عن عوائدهم، فأخذهم بالهلاك، والبُعد والطرد عن ساحة الحضرة أخذةً رابية زائدة على قُبح فعلهم، لتأبُّدهم في غمِّ الحجاب. إنّا لما طغا الماء، وهو طوفان حب الدنيا، عَمَّ الناسَ وأغرقهم في بحر الهوى، حملناكم يا معشر أهل النسبة، الذين أجابوا الداعي، ودخلوا في حصن تربيته في سفينة النجاة، ليَعْتبر بكم مَن تقدّم عنكم ومَن تأخر، أو: لمّا طغى الماء الغيبي وظهر، وانطبق بحر الأحدية عليكم، حملناكم في سفينة الشريعة؛ لئلا تصطلموا، أو: حملناكم في سفينة الأفكار الجارية في بحار الملكوت وأسرار الجبروت، لنجلعها لكم تذكرة وترقية وتعيها أُذن واعية راسخة في علم الربوبية، فتدونَها في الكتب؛ لينتفع بها مَن يروم العوم في تلك البحار، وهذا شأن مَن غنَّى بتلك الأسرار، كالششتري وغيره، أو ألَّف فيها كابن عطاء الله وأمثاله، نفع الله ببركاتهم.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} يقول الحق جلّ جلاله: {فإِذا نُفخ في الصُّور نفخةٌ واحدةُ}، وهي النفخة الأولى، وتموت عندها الخلائق، والثانية يحيون عندها، {وحُمِلتِ الأرضُ والجبالُ} أي: قلعت ورفعت عن أماكنها، بمجرد القدرة الإلهية، أو بتوسُّط الزلزلة، أو الريح العاصفة، {فدُكَّتا دَكَّةً واحدةً} أي: دقّتا وكسرتا، أي: ضُرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيباً مهيلاً وهباءً منثوراً، {فيومئذٍ}، فحينئذ {وقعت الواقعةُ} أي: قامت القيامة بعدها، {وانشقتِ السماءُ} أي: فُتحت أبواباً لنزول الملائكة، {فهي} أي: السماء {يومئذٍ واهيةٌ}؛ ضعيفة مسترخية، كالصوف أو القطن، بعدها كانت مُحْكَمة {والمَلَكُ} أي: جنس المَلك، وهو بمعنى الجمع، فهو أعمّ من الملائكة، {على أرجائها}؛ جوانبها، جمع رَجاً، مقصور، أي: تنشق السماءِ، التي هي مسكنهم، فيلتجئون إلى أكنافها وأطرافها، {ويحملُ عرشَ ربك فوقهم} أي: فوق الملَك الذين هم على الأرجاء، {يومئذٍ ثمانيةٌ} من الملائكة، واليوم تحمله أربعة، وزيدت أربعة أخرى يوم القيامة إمداداً لتلك الأربعة. رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة قوّاهم الله تعالى بأربعة أخرى»، وقال ابن عباس: هي ثمانية صفوف من الملائكة، لا يعلم أحدٌ عِدتهم. وقال ابن زيدٍ: هم ثمانية أملاك، على هيئة الوعول. الوَعِلَ: تيسُ الجبل، وقيل: على هيئة الناس، أرجلهم تحت الأرض السابعة، وكواهلهم فوق السماء السابعة، والعرش فوق رؤوسهم، وهم مطرقون. وفي بعض الأخبار: أنَّ الأربعة التي تحمل العرش اليوم؛ أحدهم على صورة الإنسان، يطلب الرزق للأرض، والآخر على صورة الثور، يطلب الرزق للبهائم، والآخر على صورة النسر، يطلب الرزق للطيور، والآخر على صورة الأسد، يطلب الرزق للوحوش، وقيل: المراد بالآية: تمثيل لعظمة الله تعالى بما يُشاهَد من أحوال السلاطين، يوم خروجهم على الناس للقضاء العام، لكونها أقصى ما يتصور من العظمة والجلال، وإلاّ فشؤونه تعالى أجلَّ من كل ما يُحيط به فلك العبارة والإشارة. {يومئذٍ تُعرضون} للسؤال والحساب، شبّه ذلك بعرض السلطان الجيشَ؛ ليعرف أحواله، رُوي «أن في القيامة ثلاث عَرْضَاتٍ، فأمّا عَرْضَتَان: فاعتذار واحتجاج، وأما الثالثة: ففيها تُنشر الكتب، فيأخذ الفائز كتابه بيمينه، والهالك بشماله»، وهذا وإن كان بعد النفحة الثانية لكن لمّا كان اليوم اسماً لزمان متسع يقع فيه النفحتان، والصعقة والنشور والحساب، وإدخال أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النارِ النارَ، صحّ جعله ظرفاً للكل، وظاهر نظم الآية أنَّ نشر الموتى من القبور لا يكون إلاَّ بعد دك الأرض، وتسيير الجبال، فلا يقع النشر إلاّ على الأرض المستوية، لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتاً، وأمّا انشقاق السماء فمؤخّر، يكون والله أعلم والناس في الموقف على ما في بعض أخبار الآخرة. ثم قال تعالى: {لا تخفى منكم خافيةٌ} أي: سريرةٌ ولا حالٌ كانت تخفى في الدنيا. والجملة: حال من ضمير «تُعرضون» أي: تُعرضون غير خافٍ عليه تعالى السرائر، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم بالياء؛ لأن تأنيثها مجازي. الإشارة: فإذا نُفخ في صور القلب الغافل، الخالي من الحياة الأبدية، نفخة واحدة، من همّة شيخ كامل، إما بوارد شوق مُقلق، أو خوف مُزعج، وحُملت أرض بشريته، وجبال عقله، فدُكتا دكةً واحدة، فغاب حس البشرية وانخنس، وغاب نور العقل عند سطوع أنوار شمس العرفان، فيومئذ وقعت الواقعة، أي: ظهرت الحقيقة العيانية، وبدلت الأرض غير الأرض، والسموات، فصار الجميع نوراً ملكوتياً، أو سرًّا جبروتيًّا، وانشقت سماء الأرواح فظهرت أسرار المعاني خلف رداء الأواني، فهي أي: الأواني الحسية يومئذ واهية ضعيفة متلاشية، لا وجود لها من ذاتها، والمَلك، اي: الواردات الإلهية، والخواطر الملكية، على أرجائها: على أطراف سماء الأرواح، يُلهمها العلوم اللدنية، والأعمال الصافية، ويحمل عرش ربك، أي: عرش معرفة الرب، وهو القلب، فهو سرير سلطان المعرفة، ومحل التجليات الذاتية، ثمانية: الصبر، والشكر، والورع، والزهد، والتوكل، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، وهو عرش المعرفة، يومئذ تُعرض الخواطر على القلب، لا يخفى عليه منها شيء، فيقبل الحسَن، ويرفع القبيح. والله تعالى أعلم. وذكر في الحاشية الفاسية ما فوق العرش الحسي، وما تحت الأرض السفلى، فقال ما نصُّه: وفي حديث «فوق السماء السابعة بحرٌ، بين أعلاه وأسفله، كما بين السماء والسماء، وفوفق ذلك ثمانية أَوْعَالٍ، بين أظلافهِنَّ ورُكبهنَّ ما بين سماءٍ إلى سماء، وفوق ظهورهن العرش، بين أسفله وأعلاه ما بين سماء إلى السماء، والله تبارك وتعالى فوق ذلك»، وفي حديث آخر: «عدد الأرضين سبع، بين كل واحدة والآخرى خمسمائة سنة، والذي نفس محمد بيده؛ لو أنكم دلّيتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله»، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3]. ه. فتحصل من حديث سيد العارفين، وقدوة الواصلين، أنَّ الحق جلّ جلاله محيط بكل شيء، فأسرار ذاته العلية أحاطت بالوجود بأسره. فما فوق العرش هو عين ما تحت الثرى، فلو صعد أحد إلى ما فوق العرش لوجد الله، ولو هبط إلى ما تحت الأرض السفلى لوجد الله؛ إذ عظمته أحاطته بكل شيء، ومحت وجود كل شيء. واعلم أن الحق جلّ جلاله منفرد بالوجود، لا شيء معه، غير أنَّ عظمة الذات الخارجة عن دائرة قبضة التكوين باقية على أصلها من اللطافة والكنزية، والعظمةَ الداخلة في القبضة حين دخلها التكثيف، وتحسّست ليقع بها التجلِّي، استترت وتردّت برداء الكبرياء، فظهر فيها الضدان؛ العبودية والربوبية، والحس والمعنى، والقدرة والحكمة، فاستترت الربوبية برداء الكبرياء، فكان من اصطلاح الوحي التنزيلي أن يُخبر عن العظمة الأصلية وينعت أوصافها، ويسكت عن العظمة الفرعية، التي وقع بها التجلِّي، ستراً لسر الربوبية أن يظهر، إذ لو ظهر لفسد نظام عالم الحكمة، ولذلك قال سهل رضي الله عنه: للألوهية سر لو انكشف لبطلت النبوات، وللنبوات سر لو انكشف لبطل العِلم، وللعلم سر لو انكشف لبطلت الأحكام. ه. فَسِرُّ الألوهية هو قيامها بالأشياء، وظهورها بها، بل لا وجود للأشياء معها، فلو انكشف هذا السر لجميع الناس لاستغنوا عن العبادة والعبودية، ولبطلت أحكام النبوة، إذ النبوة إنما هي لبيان العبادة وآداب العبودية، وعند ظهور هذا السر يقع الاستغناء عن تلقي الوحي. وأيضاً، ليست القلوب كلها تقدر على حمل هذا السر، فلو تجلّى للقلوب الضعيفة لوقع لها الدهش والحيرة، وربما أدّاها إلى التلف. وسر النبوات هو سدل الحجاب بين الله وعباده، حتى يفتقر الناس إلى تلقي العلم بواسطة النبوة، فلو انكشف هذا الحجاب لوقع الاستغناء عن النبوة، لتلقِّيه حينئذ كشفاً بدونها من غير تكلُّف، وسر العلم هو إبهام العواقب، فلو انكشف هذا السر وعرف كل واحد مآله للجنة أو النار؛ لبطلت الأحكام؛ إذ مَن عرف أنه للجنة قطعاً استغنى عن العبادة ومَن عرف أنه للنار قطعاً انهمك في المعاصي، فأخفى الله هذا السر ليعمل كل واحد على الرجاء والخوف. والله تعالى أعلم.
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} يقول الحق جلّ جلاله: {فأمّا مَن أُوتي كتابه بيمينه فيقول} تبجُّحاً وابتهاجاً وسروراً، لِما يرى فيه من الخيرات خطاباً لجماعته: {هاؤُمُ}: اسم فعل، بمعنى خُذوا، وفيه لغات، أجودهن المطابقة تقول: هاء يا رجل، وهاءِ يا امرأة، بهمزة مكسورة من غير ياء، وهاؤما يا رجلان وامرأتان، وهاؤم يا رجال وهاؤنّ يا نساء. {اقرؤوا كتابيَهْ}، والأصل: هاؤم كتابي اقرأوا كتابيهْ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، والعامل في «كتابيه» اقرأوا، عند البصريين؛ لأنهم يُعملون الأقرب، والهاء في «كتابيه»، و«حسابيه»، و«ماليه»، و«سلطانيه» للسكت، وحقها أن تثبت في الوقف، وتسقط في الوصل، وقد استُحبّ إيثار الوقف إيثاراً لثباتها؛ لثبوتها في المصحف. {إِني ظننتُ أني ملاقٍ حسابيهْ} أي: علمت وتيقنت أني سألقى حسابي، ولعل التعبير بالظن للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية. قاله أبو السعود، وقد تقدّم سره في البقرة. {فهو في عيشةٍ راضيةٍ} أي: ذات رضا يرضى بها صاحبها. جعل الفعل لها مجازاً، وهو لصاحبها؛ لكونها صافية من الشوائب، دائمة، مقرونة بالتعظيم، {في جنةٍ عاليةٍ}؛ مرتفعة المكان؛ لأنها في السماء السابعة، أو: رفيعة الدرجات، أو المباني والأشجار والقصور، وهو خبر بعد خبر، {قُطوفها دانيةُ}؛ ثمارها قريبة من مريدها، ينالها القاعد والمضطجع كالقائم. قال ابن عرفة: هذه الجملة احتراس؛ لأنه تعالى وصفها بالعلو، وشأن المكان العالي أن تكون ثماره كذلك، فأزال ذلك بأنها مع علو ثمارها قريبة التناول، سهلة المأخذ. ه. والقطوف جمع قطف، وهو ما يحثي بسرعة. ويقال لهم: {كُلُوا واشربوا هنيئاً} أي: أكلاً وشُرباً هنيئاً، لا مكروه فيهما ولا أذىً، أو: هنئتم هنيئاً {بما أسلفتم} أي: بمقابلة ما قدّمتم من الأعمال الصالحة، {في الأيام الخاليةِ} أي: الماضية في الدنيا، وعن مجاهد: أيام الصيام وقال ابن عباس: هي في الصائمين، أي: كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى. رُوي أن الله تعالى يقول: «يا أوليائي، طالما نظرتُ إليكم في الدنيا، وقد قلَصَتْ شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم وخمصت بطونكم، فكونوا اليوم في نعيمكم، وكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية» ولا تقصر الآية على الصوم، بل كل ما أسلف الإنسانُ من الأعمال الصالحة داخل في الآية، بدليل قوله تعالى: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 19 والمراسلات: 43]. وهذه الآية وأمثالها هزّت قلوب المجتهدين، حتى عمَّروا أوقاتهم، وحافظوا على أنفاسهم؛ لئلا تضيع، وكان عمر رضي الله عنه يقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبُوا، فإنه أهون، أو أيسر لحسابكم، وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزنوا وتجهّزوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية. ه. {وأمَّا مَن أُوتي كتابه بشِماله}، ورأى ما فيه من قبائح الأعمال، {فيقول يا ليتني لم أُوتَ كتابيهْ} أي: لم أُعطَ كتابي، {ولم أّدْرٍ ما حسابيهْ} أي: يا ليتني لم أعلم حسابي، ولم أقف عليه، لِمَا شاهد من سوء العاقبة، {يا ليتها}: يا ليت الموتة التي متُّها {كانت القاضيةَ} أي: القاطعة لأمري، ولم أُبعث بعدها، ولم ألقَ ما لقيت، فضمير «ليتها» للموتة، ويجوز أن يكون لِما شاهده من الحالة، أي: يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قُضيت عليَّ؛ لأنه وجدها أَمَرّ من الموت، فتمناه عندها، وقد جوّز أن يكون للحياة الدنيا، أي: يا ليت الحياة الدنيا كانت الموتة ولم أُخْلَق حيًّا. {ما أغنى عن مالِيَهْ} أي: ما نفعني ما جمعتُ من الأموال شيئاً، ف «ما» نافية، أو استفهامية للإنكار، أي: أيُّ شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار؟ {هلك عني سلطانيهْ} أي: مُلكي وعزي، وتسلُّطي على الناس، وبقيتُ فقيراً ذليلاً، أو: حُجتي التي كنت أحتجّ بها في الدنيا. فيقول الله تعالى لخزنة جهنّم: {خُذوه فغُلُّوه} أي: فشُدُّوه بالأغلال، بأن تجمع يده إلى عنقه، {ثم الجحيم صَلُّوه} أي: أدخلوه، أي: لا تصلّوه إلاّ للجحيم، وهي النار العظيمة؛ ليكون الجزاء على وفق المعصية، حيث كان يتعاظم على الناس، {ثم في سلسلة ذَرْعُها} أي: طُولها {سبعون ذراعاً} بذراع الملَك، وقيل: لا يعرف قدرها إلاّ الله، {فاسْلُكُوه} أي: فأدْخِلوه فيها، وقيل: تدخل من دبره وتخرج من منخريه، وقيل: تدخل من قُبله وتخرج من دبره. {أِنه كان لا يُؤمن بالله العظيم}، تعليل لاستحقاق العذاب، ووصفه تعالى بالعظيم؛ للإيذان بأنه المستحق للعظمة وحده، فمَن نَسَبَها لنفسه استحقّ أعظم العقوبات، {ولا يَحُضُّ على طعام المسكين} أي: لا يحث على بذل طعام غيره، فضلاً عن أن يبذل ماله، وقيل: ذكر الحض للتنبيه على أنَّ تارك الحضّ إذا كان بهذه المنزلة، فما ظنك بتاركه؟ وفيه دلالة على أنَّ الكفار مخاطبون بالفروع، وأنَّ أقبح العقائد الكفر، وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب، وفيه أيضاً إشارة إلى أنه كان لا يؤمن بالبعث، لأنَّ إطعام المساكين إنما يرجى جزاؤه يوم القيامة، فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم، وفيه دليل على عِظم جُرم حرمان المساكين؛ لأنّه عطفه على الكفر، وجعله دليلاً عليه وقرينَه. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يحضّ امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، ويقول: خلَعْنا نصفَ السلسلة بالإيمان، فلنخلع نصفها بهذا، أي: الصدقة. قال النسفي: وهذه الآية ناطقة بأنَّ المؤمنين يُرحمون جميعاً، والكافرون لا يُرحمون؛ لأنه تعالى قسّم الخلق صنفين، فجعل صنفاً منهم أهل اليمين، ووصفهم بالإيمان بقوله: {إني ظننتُ إني ملاقٍ حسابيه}، وصنفاً منهم أهل الشمال، ووصفهم بالكفر بقوله: {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم. ..} الخ، وجاز أنَّ الذي يُعاقَب من المؤمنين إنما يعاقَب قبل أن يؤتَى كتابه بيمينه. ه. قال ابن عطية: والذين يُعطون كتابهم بأيْمانهم هم المخلَّدون في الجنة من أهل الإيمان، واختلف العلماء في الفرقة التي ينفذ فيها الوعيد من أهل المعاصي، متى تأخذ كتبها؟ فقال بعضهم: الأظهر أنها تأخذها مع الناس، وذلك يُؤنسُها مدة العذاب، قال الحسن: فإذا أعطي كتابه بيمينه لم يقرأه حتى يأذن الله له، فإذا أَذِنَ له قال: {هاؤم اقرأوا كتابيه}، وقال آخرون: الأظهر أنها إذا خرجوا من النار، والإيمان يؤنسُهم وقت العذاب، قال: وهذا هو ظاهر الآية؛ لأنَّ مَن يسير إلى النار كيف يقول: {هاؤم اقرأوا كتابيه}. ثم قال: والمخلَّدون في النار من أهل الكفر هم الذين يُؤتون كتابهم بشمالهم، وقال في آية الانشقاق: مَن ينفذ فيه الوعيد من العصاة، يُعطى كتابه عند خروجه من النار، وقد جَوّز قومٌ أن يُعطاه أولاً قبل دخوله النار، وهذه الآية ترد عليه. ه. يعني قوله: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق: 9]. قلت: والذي يظهر من الأحاديث التي في أخبار البعث: أنَّ الصحف تُنشر دفعة واحدة للطائع والعاصي، والمؤمن والكافر، فالمؤمن يأخذ كتابه بيمينه، فيُسرّ، فإن كان كاملاً فسُروره ظاهر، وإن كان عاصياً فرح أن مآله للجنة، ويجوز أن يُبهم الأمر عليه حينئذ، فيفرح لظنه النجاة، فإن مرَّ على الصراط زلّت قدمه لمكان معاصيه، فينفذ فيه الوعيد، ثم يخرج، وأمّا بعد خروجه من النار وحسابه حينئذٍ فبعيد جدًّا، لم يرد به نص. قال الشيخ ابن أبي جمرة رضي الله عنه: عادته تعالى في التنزيل أن يذكر الكامل في الطاعة، والكامل في العصيان أي: الكفر ويسكت عن المخلط، فدلَّ على أنه يرى من هذا ويرى من هذا. ه. بالمعنى. فالذي يقول: {هاؤم اقرأوا كتابيه} هو الكامل، أو الذي حوسب وعُفي عنه، وأمّا العاصي الذي ينفذ فيه الوعيد، فلعله يسكت. والله تعالى أعلم، وسَتَرِد وتعلم. ثم قال تعالى: {فليس له اليومَ هاهنا حميمٌ} أي: قريب يحميه ويدفع عنه؛ لأنَّ أولياءه الذين يتحامونه يفرُّون منه، {ولا طعامٌ إِلاَّ من غِسْلِينٍ} وهو غسالة أهل النار وصديدُهم، فِعْلِين، من الغَسْلِ، والنون زائدة، والمراد: ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم. وقال ابن عزيز: غِسْلين: غسالة أجواف أهل النار، وكل جرح أو دبر غسلته، فخرج منه شيء، فهو غِسلين. ه. {لا يأكُله إِلاّ الخاطئون}؛ الكافرون، أصحاب الخطايا العظام. من خَطِىء الرجل: إذا تعمَّد الذنب. أو من الخطأ، المقابل للصواب، وهو هنا: مَن أخطأ طريقَ التوحيد، وعن ابن عباس: هم المشركون. الإشارة: أهل اليمين مَن سبق لهم اليُمن في الأزل، وأهل الشمال مَن سبق لهم الشؤم كذلك. وفي الحديث: «إن الله قبض قبضة فقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، ثم قبض أخرى، وقال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي» أي: لا أُبالي بما يعملون. وقال القشيري: في إشارة الآية ما نصه: يشير إلى قوله عليه السلام في أثناء حديث طويل: «قبض قبضة، فإذا فيها آدم وبنوه، فمسح بيده اليُمنى الجمالية اللطيفة على ظهره الأيمن الجمالي، فأخرج منها ذراريه، كالقبضة البيضاء، باليد الجمالية أصحاب اليمين، ثم مسح بيده اليسى الجلالية القهرية، على ظهره الأيسر الجلالي، فأخرج منه ذريته كالحمصة السوداء، باليد الجلالية، أصحاب الشمال» أول ما في معناه. وقوله: (كتابيه) يُشير إلى الكتاب الاستعدادي، المكتوب في الأزل، على لوح جبين كل واحد، بما يعمل إلى الأبد. ه. فالكتاب الذي يُعطى يوم القيامة نسخة مما سُطِّر على لوح الجبين، الموافق للأزل، فحكمته قيام الحُجة في الظاهر، فمَنْ سبق له سهم العناية تبجّح به، ويقول: هاؤم اقرأوا كتابيه، إني تحققت في الدنيا أني ملاقٍ حسابيهْ. وعبَّر بالظن ستراً لأهل الظنون والخواطر، وتوسعة عليهم، فهم في الدارين في عيشة راضية، في الدنيا في روح الرضا ونسيم التسليم وجنة العرفان، وفي الآخرة في مقعد صِدق في جوار الرحمن، في جنة عالية، رفيعة القدر حسًّا ومعنىً، قُطوفها دانية. أمّا جنة المعارف فقطوفها ما يتجتنى من ثمار العلوم، وفواكه الحِكم، وتزايد الفهوم، وأمّا في الآخرة فزيادة الترقي والكشف أبداً سرمداً، ويُقال لهم: كُلوا من قوت أرواحكم وأشباحكم، واشربوا من خمرة قلوبكم وأسراركم، من كأس المحبة، والاجتباء، هنيئاً لا كدر فيه ولا تعب، بما أسلفتم في أيام مجاهدتكم الماضية، ومَن سبق لهم سهم الشقاء يقول: يا ليته لم يكن شيئاً، ويتمنى بقاءه في حيز العدم، ثم يَلقى من أنواع العذاب الجسماني والروحاني، من البُعد والطرد ما ذكره الحق تعالى في بقية الآية، نعوذ بالله من سوء القضاء، ومن السلب بعد العطاء.
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)} يقول الحق جلّ جلاله: {فلا أُقسم} أي: أُقسم، على أن «لا» مزيدة للتأكيد، كقوله: {فَلاَ وَرَبِكَ} [النساء: 65] أي: احلف {بما تُبصرون} في عالم الشهادة، {وما لا تُبصرون} مما هو في عالم الغيب، أو بما تُبصرون من الأرض والسماء، والأجسام والأجرام، وما لا تُبصرون من الملائكة والأرواح، أو: ما تُبصرون من النعم الظاهرة، وما لا تُبصرون من النِعَم الباطنة. والتحقيق: أنه أقسم بالكل {إِنه} أي: القرآن {لقولُ رسولٍ كريم} على الله، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أو جبريل عليه السلام، أي: يقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند الله عزّ وجل، {وما هو بقولِ شاعرٍ} كما تزعمون تارة، {قليلاً ما تؤمنون} أي: إيماناً قليلاً تؤمنون، {ولا بقول كاهنٍ} كما تزعمون ذلك تارة أخرى، والكاهن هو الذي يُخبر عن بعض المضمرات فيُصيب بعضها ويخطىء أكثرها، ويزعم أنَّ الجن تُخبره بذلك، ويدخل فيه: مَن يُخبر عن المغيبات من جهة النجوم أو الحساب، {قليلاً ما تذكّرون}، والقلة في معنى العدم، يقال: هذه أرض قلما تُنبت؛ أي: لا تنبت أصلاً، والمعنى: لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتّة. وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون (ما) نافية؛ فينتفي إيمانهم ألبتة، ويحتمل أن تكون مصدرية، فيتصف إيمانهم بالقلة، ويكون إيماناً لغوياً؛ لأنهم صدّقوا بأشياء يسيرة، لا تغني شيئاً. ه. فتحصل في (ما) ثلاثة أقوال؛ المشهور: أنها زائدة لتأكيد القلة. قال أبو السعود: قيل: ذكر الإيمان مع نفي الشاعرية؛ لأنّ عدم مشابهة القرآن للشِعر أمر بيِّن، لا يُنكره إلاَّ معاند، بخلاف مباينته للكهانة؛ فإنه يتوقف على تذكُّر أحواله صلى الله عليه وسلم ومعاني القرآن المنافية لطريقة الكهنة، ومعاني أقوالهم، وأنت خبير بأنَّ ذلك أيضاً مما لا يتوقف على تأمُّل قطعاً. وقُرىء بالياء فيهما. ه. {تنزيلٌ من رَبِّ العالمين} أي: هو تنزيل، وهو تقرير لكنه قول رسول كريم، نزل عليه من رب العالمين، أنزله على لسان جبريل صلى الله عليه وسلم، {ولو تقوَّل علينا} محمد {بعضَ الأقاويل} أي: ولو ادّعى علينا شيئاً لم نَقُلْهُ افتراء علينا. سَمَّى الافتراء تقوُّلاً؛ لأنه قول متكلّف، والأقوال المفتراة أقاويل، تحقيراً لها، كأنها جمع أفعولة، من القوْل، كالأضاحيك، {لأخذنا منه باليمين} أي: لقتلناه صبراً، كما تفعل الملوك بمَن يَكذب عليهم، مُعاجلةً بالسخط والانتقام، فصوّر قتل الصبر بصورته؛ ليكون أهْول، وهو أن يأخذ بيده، وتصرب رقبته، وخصَّ اليمين؛ لأنَّ القتَّال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده، وهو أن يكفحه بالسيف وهو أشد على المصبور؛ لنظره إلى السيف أخذه بيمينه، ومعنى {لأخذنا منه باليمين}: لأخذنا بيمينه، {ثم لقطعنا منه الوتينَ} أي: لقطعنا وتينه، وهو نياط القلب، إذا قطع مات صاحبه. {فما منكم}، الخطاب للناس، أو المسلمين، {مِن أحدٍ} «من» زائدة، {عنه} أي: عن القتل أو المقتول، {حاجزين}؛ دافعين، وجمعَه، وإن كان وصفاً ل «أحد»؛ لأنه في معنى الجماعة؛ لأنَّ النكرة بعد النفي تعم. {وإِنه} أي: القرآن {لتذكرةٌ}؛ لَعِظةٌ {للمتقين} لأنهم المنتفعون به، {وإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُكَذِّبِينَ} فنُجازيهم على تكذيبهم، {وإِنه لحسرةٌ على الكافرين} عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين له، {وإِنه لَحقُّ اليقين} أي: محض اليقين الذي لا يحوم حوله ريب ما، وحق اليقين فوق عين اليقين على ما يأتي. {فسَبِّحْ باسم ربك العظيمِ} أي: فَسبِّح بذكر اسمه العظيم، تنزيهاً عن التقوُّل عليه، شكراً على ما أوحي إليك، أي: قل سبحان الله العظيم شكراً لنعمة الوحي والاصطفاء. الإشارة: أقسم تعالى بذاته المقدسة، ما وقع به التجلِّي وما لم يقع، أي: ما ظهر منها في عالَم الشهادة، وما لم يظهر، على حقيّة القرآن، وأنه خرج من حضرة الحق، إلى الرسول الحق، ناطقاً بالحق، على لسان السفير الحق، متجلِّياً من ذات الحق، واصلاً من الحق إلى الحق، مشتملاً على علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فعلم اليقين: ما أدراك من جهة البرهان، وعين اليقين: ما أدراك بالكشف والبيان، وحق اليقين: ما أدراك بالشمول والبيان، ومثال ذلك تقريباً، وجود مكة مثلاً، فمَن لم يرها فقد حصل له بالإخبار علم اليقين، ومَن رآها، ولم يدخلها، فقد حصل له عين اليقين، ومَن دخلها وعرف أماكنها وأزقتها، فقد حصل له حق اليقين، وكذلك شهود الحق تعالى، فمَن تحقق بوجوده من جهة الدليل فعنده علم اليقين، ومَن كشف له عن حس الكائنات، وشاهد أسرار الذات، لكنه لم يتمكن من دوام شهودها، فعنده عين اليقين، ومَن تمكن مِن شهودها ورسخ في المعرفة، فعنده حق اليقين. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم.
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)} يقول الحق جلّ جلاله: {سأل سائل}، قرأ نافع والشاميّ بغير همز، إمّا من السؤال، على لغة قريش، فإنهم يُسهّلون الهمز، أو مِن السّيلان، ويُؤيده أنه قُرىء «سَال سيْل» أي: سال وادٍ {بعذابٍ واقعٍ للكافرين} يوم القيامة، والتعبير بالماضي لتحقُّق وقوعه، أو في الدنيا، وهو عذاب يوم بدر، وقرأ الباقون بالهمز، من السؤال أي: طَلَبَ طالب، وهو النضر بن الحارث، حيث قال استهزاءً: {إِن كَانَ هّذاَ هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السمآء} [الأنفال: 32] وقيل: أبو جهل حيث قال: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السمآء} [الشعراء: 187]، وقيل: هو الحارث بن النعمان الفهري، وذلك أنه لمّا بلغه قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عَلِيّ: «مَن كنتُ مولاه فَعَلِيٌّ مولاه»، قال: اللهم إن كان ما يقول محمد حقًّا فأَمْطِر علينا حجارةً من السماء، فما لبث حتى رماه الله بحَجَر، فوقع على دماغه، فخرج من أسفله، فهلك من ساعته. وقوله تعالى: {بعذاب} إذا كان «سال» من السيلان، فالباء على بابها، أي: سال واد بعذاب للكافرين، وإذا كان من السؤال فالباء بمعنى «عن» كقوله تعالى: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] أي: سأل عن عذاب، أو ضَمَّن «سأل» معنى دعا، فعدّى تعديته، مِن قولك: دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، ومنه قوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ} [الدخان: 55] أي: دعا داع بعذابٍ واقع لا محالة، إما في الدنيا أو الآخرة، و«للكافرين»: صفة ثانية لعذاب، أي: بعذاب واقع حاصل للكافرين، أو متعلق بسَأل، أي: دعا للكافرين بعذاب واقع، {ليس له} أي: لذلك العذاب {دافع}؛ راد {من الله}: متصل بواقع، أي: واقع من عند الله، أو بدافع، أي: ليس له دافع من جهته تعالى إذا جاء وقته، والجملة: صفة أخرى لعذاب، أو حال منه أو استئناف. {ذي المعارج} أي: ذي المصاعد، التي تصعد فيها الملائكة بالأوامر والنواهي، وهي السموات المترتبة بعضها فوق بعض، أو: ذي الفواضل العالية، أو معالي الدرجات، أو الدرجات التي يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح، أو: يرقى فيها المؤمنون في سلوكهم. {تعرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ} أي: جبريل عليه السلام، أُفرد بالذكر لتميُّزه وفضله، أو الروح: خلقٌ من الملائكة هم حفظة على الملائكة، كما أنَّ الملائكة حفظةٌ علينا، أو: أرواح المؤمنين عند الموت، فإنها تعرج إلى سدرة المنتهى، فتُحاسَب، ثم تدخل الجنة لترى مقعدها، ثم ترجع للسؤال في القبر، وقوله تعالى: {إِليه} أي: إلى عرشه ومهبط أمره {في يوم كان مقدارُه خمسين ألفَ سنةٍ} مما يعده الناس، وهو بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج وبُعد مداها، على منهاج التمثيل والتخييل. والمعنى: أنها من الارتفاع بحيث لو قدر قطعها في زمان؛ لكان ذلك الزمان مقدار خمسين ألف سنة من سِنيِّ الدنيا، وقيل: معناه: تعرج الملائكة والروح إلى عرشه تعالى في كل يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، أي: يقطعون في يوم ما يقطعه الإنسان في خمسين ألف سنة. وقد تقدّم الجواب في سورة السجدة عن المعارضة بين ما هنا وبين قوله هناك: {كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5]، وحاصله: أنَّ الحق تعالى موجود في كل زمان ومكان، فلا يخلو منه مكان ولا زمان، فحيث علّق العروج بتدبير الأمر قرَّب المسافة، وحيث علّقه بذاته، بحيث جعل العروج إليها، بعَّدها؛ تنبيهاً على علو شأنه وارتفاع عظمته. وقيل: هو من [صلة] قوله: {واقع} أي: يقع ذلك العذاب في يوم طويل، مقداره خمسون ألف سنة، وهو يوم القيامة، فإمّا أن يكون استطالته كناية عن شدته على الكفار، أو لأنه يطول حقيقة، فقد قيل: فيه خمسون موطناً، كل موطن ألف سنة، وما قّدْر ذلك على المؤمن إلاَّ كما بين الظهر والعصر أو أقل، على قدر التخفيف اليوم، وفي حديث أبي سعيد الخدري: قيل: يا رسول الله، ما أطول هذا اليوم؟ فقال عليه السلام: «إنه ليخف على المؤمن، حتى يكون أخف من صلاة مكتوبة يُصلّيها في الدنيا». وقال عبد الحق في العاقبة: إنَّ طول اليوم ذلك المقدار، ولكن مِن الناس مَن يطول قيامه وحبسه إلى آخر اليوم، ومنهم مَن ينفصل في مقدار يوم من أيام الدنيا، وفي ساعة من ساعته، وفي أقل من ذلك، يكون رائحاً في ظل كسبه، وعرش ربه، ومنهم مَن يؤمر به للجنة من غير حساب ولا عذاب، كما أنَّ منهم مَن يُؤمر به إلى النار في أول الأمر، من غير وقوف ولا انتظار، أو بعد يسير من ذلك. ه. وقال القشيري ما معناه: يحاسب الخلق في يوم قصير ووقت يسير، ما لو كان الناس يشتغلون به لكان ذلك خمسين ألف سنة، والله يُجري ذلك ويُمْضِيه في يوم واحد. ه. بعيد. {فاصبرْ} يا محمد {صبراً جميلاً}، وهو متعلق ب «سأل سائل» لأنَّ استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتكذيب بالوحي، وكان ذلك مما يؤذي الرسولَ عليه الصلاة والسلام فأُمر بالصبر عليه. والصبر الجميل: ألاَّ يصحبه جزع ولا شكوى. قال بعضهم: الأمر بالصبر الجميل مُحْكم في كل حال، فلا نسخ فيه، وقيل: نسخ بالقتال. {إِنهم} أي: الكفار {يَرَوْنه} أي: العذاب، أو يوم القيامة {بعيداً}؛ مستحيلاً، {ونراه قريباً}؛ كائناً لا محالة، فالمراد بالبعيد: البعيد من الإمكان، وبالقريب: القريب منه، أي: ونعلمه هيّناً في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذّر. ثم بيَّن وقته بقوله: {يومَ تكونُ السماءُ كالمُهْل}، فهو متعلق ب «قريباً» أي: يمكن ويقع في ذلك اليوم. قال أبو السعود: ولعل الأقرب أن قوله تعالى: {سأل سائل} حكاية لسؤالهم المعهود، على طريقة قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة} [الأعراف: 187والنازعات: 42] وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوعد} [يونس: 48] ونحوه، إذ هو المعهود بالوقوع على الكافرين، لا ما دعا به النضر أو أبو جهل أو الفهري، فالسؤال بمعناه، والباء بمعنى «عن»، وقوله تعالى: {ليس له دافع، من الله}: استئناف مسوق لبيان وقوع المسؤول عنه لا محالة وقوله تعالى: {فاصبرْ صبراً جميلا} مترتب عليه، أي: فاصبر فإنه يقع لا محالة. وقوله تعالى: {إنهم يرونه بعيداً...} الخ تعليل للأمر بالصبر. وقوله تعالى: {يوم تكون}: متعلق ب «ليس له دافع» أو: بما يدل عليه، أي: يقع يوم تكون السماء كالمُهل، وهو ما أذيب على مَهَل من النحاس والقار، وقيل: كدرديِّ الزيت. ه. {وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ}؛ كالصوف المصبوغ ألواناً؛ لأن الجبال {جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27]، فإذا بُسّت وطُيِّرَتْ في الجو أشبهت العهن المنفوش إذا أطارته الريح، {ولا يَسألُ حميمٌ حميماً} أي: لا يسأل قريب عن قريبه لاشتغاله بنفسه، ومَن قرأ بضم الياء فمعناه: لا يُسأل عنه، بل كلّ واحد يُسألُ عن نفسه، فلا يُطالب أحد بذنب أحد. {يُبَصَّرُونَهم} أي: يبصر الأحماءُ قرباءهم، فلا يخفون عنهم، وما يمنعهم من السؤال إلا اشتغالهم بحال أنفسهم. والجملة صفة لحميم، أي: حميماً مبصَّرين، أو: استئناف بياني، كأنه قيل: لعله لا يبصّر به، فقيل: يبصّرونهم ولكن لتشاغلهم لم يتمكنوا من التساؤل عنهم، وإنما جمع الضميران، وهما للحميمين لعموم الحميم، ولأن فعيلاً يقع على الجمع. {يَودُّ المجرمُ} أي: يتمنى الكافر، وقيل: كل مذنب، {لو يفتدي من عذابِ يومئذٍ} أي: العذاب الذي ابتلي به يومئذ. وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم على البناء لإضافته إلى غير متمكّن، {ببنيهِ وصاحبتهِ} أي: زوجته {وأخيه}، والجملة استئنافية، لبيان أنَّ اشتغال كل واحد منهم بنفسه بلغ إلى حيث يتمنى أن يفتدى بأقرب الناس إليه، و«لو» تمنية، أو مصدرية، أي: يود فداء ببنيه.. الخ {وفَصِيلَتِه} أي: عشيرته الأدنين، التي انفصل عنها، {التي تُؤويه} أي: تضمه في النسب، أو عند الشدائد، {ومَن في الأرض جميعاً} من الخلائقن يتمنى الافتداء بهم، {ثم يُنجيه} الافتداء، وهو عطف على «يفتدي» أي: يود لوم يفتدي ثم لو ينجيه الافتداء، و«ثم» لاستبعاد الإنجاء، يعني: يتمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده، وبذلهم في فداء نفسه، ثم ينجيه ذلك، وهيهات. {كلاًّ}، ردع للمجرم عن الودادة وتصريح بامتناع الافتداء، {إِنها} أي: النار، المدلول عليها بالعذاب، أو ضمير مبهم، ترجم عنه الخبر، أو ضمير القصّة، {لَظَى} علم للنار، منقول من اللظى بمعنى اللهب، {نزاعة لِلشَّوَى}؛ خبر بعد خبر، ومَن نصب فعلى الحال المؤكدة، أو على الاختصاص للتهويل. والشَّوى: أطراف الإنسان، كاليدين والرجلين، أو: جمع شواة، وهي جلدة الرأس، تنزعها النارُ نزعاً، فتفرّقها، ثم تعود إلى ما كانت. {تَدعو} أي: تجذبُ، وتخطف، أو: تدعوهم بأسمائهم: يا كافر يا منافق إليَّ، وقيل: تدعو المنافقين بلسان فصيح، ثم تلتقطهم التقاط الحب، أو: تُهْلِك، من قولهم: دعاك الله، أي: أهلكك، أو: لمّا كان مصيره إليها جُعلت كأنها دعته. وقيل: تدعو زبانيتها، ومفعول تدعو: {مَنْ أدبرَ} عن الحق {وتولَّى}؛ أعرض عن الطاعة، {وجمع} المال {فأوْعى}؛ جعله في وعاء، وكَنَزَه ولم يؤدِّ حق الله فيه، أو تشاغل به عن الدين، وزهى باقتنائه حرصاً وتأميلاً، عائذاً بالله من ذلك. الإشارة: سال إلى قلوب أهل الغفلة والإنكار سايل من بحر الهوى، بعذاب واقع نازل بقلوبهم من الجزع والهلع والشكوك والخواطر، أو: سأ سائل عن عذاب واقع لأهل الإنكار، وهو غم الحجاب، وسوء الحساب، ليس له دافع من جهته تعالى؛ لأنه حكم به على أهل البُعد والإنكار. وهو تعالى ذو المعارج، أي: ذو المراقي، تترقى إليه الأرواح والأسرار، من مقام إلى مقام، من مقام الإسلام إلى الإيمان، ومن الإيمان إلى الإحسان، أو: من عالَمٍ إلى عالَمٍ، من عالَم المُلك إلى الملكوت، ومن عالَم الملكوت إلى الجبروت، ومن عالَم الجبروت إلى الرحموت. تعرج الملائكة والروح إليه، أمّا الملائكة فتنتهي إلى الدهش والهيمان، وأما الروح الصافية فتنتهي إلى شهود الذات بالصحو والتمكين، وهذا مقام خاصة الخاصة من النبيين والصدِّيقين، تنتهي إلى هذا المقام في زمن يسير، إن سبقت العناية واتصل صاحبها بالخبير، وفي زمن طويل إن لم يتصل بالخبير، ولذلك قال تعالى: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} أي: يقطع ذلك في يوم كان مقداره لو صار بنفسه خمسن ألف سنة. واعلم أنَّ الحق تعالى لا يتصف بقُرب ولا بُعد، هو أقرب إلى كل شيء من كل شيء، وإنما بعّد النفوسَ جهلُها به تعالى ووهْمُها وغفلتها، فإذا ارتفع الجهل والوهم، وَجَدت الحقّ كان قريباً وهي لا تشعر. قال الورتجبي: ليس للحق مكان ومنتهى، حتى أن الخلق يعرجون إليه، بل إنَّ ظهور عزته وجلاله في كل ذرة عيانٌ، فإذا رَفَعْتَ القربَ والبُعدَ من حيث المسافة، وأدرجت الأوهام والأفهام؛ لم يكن بين الحق والروح فصل، وصول الحق لأهل الحق بأقل طرفة، فإنَّ الوصل منه، وهو قريب غير بعيد. ه. فاصبر أيها السائر صبراً جميلاً؛ لتظفر بالوصل الدائم، إنهم أي أهل الغفلة يرونه بعيداً، ونراه قريباً لمن قربتُه عليه، يوم تكون السماء كالمُهل، أي: وقت الوصول هو حين تتلطّف العوالم وتذوب الكائنات، فيتصل بحر الأزل بما لم يزل، فلم يبقَ إلاَّ الأزل، قال بعض المحققين: حقيقة المشاهدة: تكثيف اللطيف، وحقيقة المعاينة: تلطيف الكثيف، فافهم. ولا يسأل حميمٌ حميماً، أي: لا مودة بين أهل البُعد وأهل القرب، ولو كان مِن أقرب الناس إليه نسباً، وهذا مثل قوله: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ واليوم ألآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ...} [المجادلة: 22] الآية. يَوَدُّ المجرمُ، حين يرى ما خص اللهُ به أولياءه من العز والقُرب، لو يفتدي بجميع مَا يملك، بل بجميع أهل الأرض مما نزل به من عذابِ القطيعة والبُعد، كلاّ إنها، أي: نار القطيعة، لَظَى، نزاعةَ لرِفْعَةِ الرؤوس، بل تحطها عن مراتب المقربين، تدعوا مَن أدبر عن المجاهدة والتربية، وجَمَعَ الدنيا فأوعاها.
{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)} يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ الإِنسانَ خُلق هلوعاً}، قال ابن عباس: الهلوع: الحريص على ما لا يجده، وعن الضحاك: هو الذي لا يشبع. وأصل الهلع: أشد الحرص وأسوأ الجزع، قال صلى الله عليه وسلم: «شر ما أعطي العبدُ شحٌّ هالع، وجُبن خالعٌ»، وأحسن تفاسيره: ما فسّره به الحق تعالى بقوله: {إِذا مسّه الشرُّ جَزوعاً}؛ مبالغ في الجزع، {وإِذا مسّه الخيرُ} أي: السعة والعافية {مَنوعاً}؛ مبالغاً في المنع والإمساك، وسُئل ثعلب عن الهلوع، فقال: قد فسّره اللهُ تعالى، ولا يكون تفسيرٌ أبين من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شرٌّ أظهر شدّة الجزع، وإذا ناله خيرٌ بخل ومنع، وهذا طبعه، وهو مأمور بمخالفة طبعه، وموافقة شرعه. والشرُّ: الضرُّ والفقر، والخير: السعة والغنى. ثم استثنى مِن الإنسان؛ لأنَّ المراد به الجنس، فقال: {إِلاَّ المُصَلِّين الذين هم على صلاتهم دائمون} لا يشغلهم عنها شاغل؛ لاستغراقهم في طاعة الخالق، واتصافهم بالإشفاق على الخلق، والإيمان بالجزاء، والخوف من العقوبة، وكسر الشهوة، وإيثار الآجل على العاجل، على خلاف القبائح المذكورة، التي طبع عليه البشر. قال ابن جُزي: لأنَّ صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا، فلا يجزعون مِن شرها، ولا يبخلون بخيرها. ه. وسيأتي في الإشارة تحقيقها إن شاء اللهُ. {والذين في أموالهم حقٌّ معلومٌ} يعني الزكاة؛ لأنها مقدّرةٌ معلومةٌ، أو صدقةٌ يوظفها الرجلُ على نفسه، يؤديها في أوقات معلومة، {للسائلِ} الذي يسأله، {والمحرومِ} الذي لا يسأله تعفُّفاً، فيظن أنه غني، فيُحرم. {والذين يُصَدِّقُونَ بيوم الدين} أي: يوم الجزاء والحساب، فيتعبون أنفسَهم في الطاعات البدنية والمالية؛ طمعاً في المثوبة الأخروية، فيستدل بذلك على تصديقهم بيوم الجزاء. {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون}؛ خائفون على أنفسهم مع ما لهم من الأعمال الفاضلة، استقصاراً لها، واستعظاماً لجانبه عزّ وجل، كقوله: {والذين يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ...} [المؤمنون: 60]، الخ {إِنَّ عذابَ ربهم غيرُ مأمونٍ}، هو اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحدٍ أن يأمنَ مِن عذابه تعالى، ولو بلغ في الطاعة ما بلغ، بل ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء كجناحي الطائر. {والذين هم لفروجهم حافظون إِلاَّ على أزواجهم}؛ نسائهم، {أو ما ملكتْ أيمانُهم} أي: إيمائهم {فإِنهم غيرُ ملومين} على ترك الحفظ، {فمَن ابتغَى} أي: طلب منكحاً {وراءَ ذلك} غير الزوجات والممولكات {فأولئك هم العادُون}؛ المتعدُّون لحدود الله، المتجاوزون عن الحلال إلى الحرام. وهذه الآية تدل على حرمة المتعة ووطء الذكران والبهائم، والاستمناء بالكف، لكنه أخف من الزنا واللواط. {والذين هم لأماناتهِم} وهي تتناول أمانات الشرع، وهي التكاليف الشرعية، وأمانات العباد، {وعهدِهم} أي: عهودهم، ويدخل فيه عهود الخلق، والنذور والأيمان، {راعون}؛ حافظون، غير خائنين، ولا ناقضين، وقيل: الأمانات: ما تدل عليه العقول، والعهد: ما أتى به الرسولُ. {والذين هم بشهادتهم قائمون} يقيمونها عند الحُكّام بالعدل، بلا ميل إلى قريب وشريف، ولا ترجيح للقوي على الضعيف، وإظهار للصلابة في الدين، وإحياء لحقوق المسلمين، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الأمانات؛ لإبانة فضلها. {والذين هم على صلاتهم يُحافظون}؛ يُراعون شرائطها، ويُكملون فرائضها وسننها ومستحباتها، وكرر ذكرها لبيان أنها أهمّ، أو: لأن إحداهما للفرائض، والأخرى للنوافل. وقيل: الدوام عليها: الاستكثار مِن تكررها، والمحافظة عليها: ألاّ تضيع عن أوقاتها، أو: الدوام عليها: أداؤها في أوقاتها، والمحافظة عليها: إتقانها وحفظ القلب في حضورها، أو: المراد بالأولى: صلاة القلوب، وهي دوام الحضور مع الحق، وبالثانية: صلاة الجوارح. وتكرير الموصولات تنزيلٌ لاختلاف الصفات منزلةَ اختلاف الذوات، إيذاناً بأن كل واحد من الصفات المذكورة نعت جليل على حِياله له شأن خطير، حقيق بان يفرد له موصوف مستقل، ولا يجعل شيء منها تتمة للآخر. {أولئك} أي: أصحاب هذه الصفات الجليلة. وما فيه من معنى البُعد مع قُرب العهد بالمُشار إليه للإيذان بعلو شأنهم وبُعد منزلتهم في الفضل، {في جناتٍ مُكرَمون} أي: مستقرُّون في جناتٍ لا يُقادَر قدرها، ولا يدرك كنهها، معظَّمون فيها، منعَّمون، وهما خبران للإشارة، أو:: في جنات «متعلق بمكرَمون. الإشارة: طبعُ الإنسان من حيث هو: الجزع والهَلع، لخراب الباطن من النور، إلاّ أهل التوجه، وهم مَن مَنَّ اللهُ عليهم بصُحبة أهل الغنى بالله، وهم الذين ذّكَرَ اللهُ بقوله: {على صلاتهم دائمون} أي: صلاة القلوب، وهي دوام الحضور مع الحق، باستغراق أفكارهم في أسرار التوحيد، وهو مقام الفناء في الذات، فهم الذين تطهَّروا من الهلع لِما باشر قلوبَهم من صفاء اليقين، فمَن لم يبلغ هذا لا ينفك طبعه عن الهلع والطمع، ولو بلغ ما بلغ. قيل لبعضهم: هل للقلوب صلاة؟ قال: نعم إذا سجد لا يرفع رأسه أبداً. ه. أي: إذا واجهته أنوارُ المواجهة خضع لها على الدوام، {والذين في أموالهم} أي: فيما منحهم اللهُ من العلوم والأسرار، حق معلوم للسائل، وهو طالب الوصول، والمحروم، وهو طالب التبرُّك، لكثرة علائقه، أو: لضعف همته، أو: للسائل، وهو مَن دخل تحت تصرفهم، والمحروم: مَن لم يدخل في تربيتهم، فله حق، بإرشاده إلى ما يصلحه مما يقدر عليه وينفعه. والذين يُصدِّقون بيوم الدين، فيجعلونه نُصب أعينهم، فيجتهدون في الاستعداد له. {والذين هم من عذاب ربهم} وهو عذاب القطيعة {مُشفقون إنّ عذاب ربهم غير مأمون} ولو بلغ العبد من التمكين ما بلغ؛ لأنَّ الله مُقَلِّب القلوب ولا يأمن مكرَ الله إلاَّ القوم الخاسرون. {والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} فإنهم ينزلون إلى القيام بحقهن بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، فمَن ابتغى وراء ذلك؛ بأن قصد شهوة المتعة، فأولئك هم العادون، تجب عليهم التوبة، والذين هم لأماناتهم، وهي أنفاس عمرهم، وساعات أوقاتهم، أو: الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، {وعهدهم} الذي أخذ عليهم في عالم الذر، وهو الإقرار بالربوبية، والقيام بوظائف العبودية، {راعون}، فهم يراعون أنفاسهم وساعاتِهم، ويُحافظون عليها من التضييع، ويُراعون عهودَهم السابقة واللاحقة، أي مع الله، ومع عباده، فيُوفون بها ما استطاعوا، والمراد نية الوفاء، لا الوفاء بالفعل، فمَن عقد عهداً ونيته الوفاء، ثم منعته الأقدار، فهو وافٍ به. والذين هم بشهادتهم لأنوار الربوبية قائمون بالأدب معها. والذين هم على صلاتهم الواجبة يحافظون، شكراً وأدباً. أولئك في جنات المعارف، مُكرَمون في الدنيا والآخرة.
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)} يقول الحق جلّ جلاله: {فَمَالِ الذين كفروا}، وكُتب مفصولاً اتباعاً للمصحف، أي: أيُّ شيء حصل لهم حتى كانوا {قِبلك} أي: حولَك {مُهطِعينَ} مُسرعين، مادّين أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك، {عن اليمين وعن الشمال} أي: عن يمينك وشمالك {عِزينَ}؛ متفرقين فرقاً شتّى. جمع: عِزَة، وأصلها: عِزوة، من العزو، فعُوِّضت التاء من الواو، كأنّ كل فرقة تُعزى إلى غير مَن تُعزى إليه الأخرى. والعزة: الفرقة القليلة، ثلاثة أو أربعة. كان المشركون إذا رأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة يقومون من مجالسهم مسرعين إليه، ويُحلِّقون حوله حِلقاً حِلقاً، وفِرقاً فِرقاً، يستمعون ويستهزئون بكلامه صلى الله عليه وسلم ويقولون: شاعر، كاهن، مفتر، ثم يقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد، فلندخلنها قبلهم، فنزلت: {أيَطْمَعُ كلُّ امرىءٍ منهم أن يُدخَلَ جنةَ نعيم} بلا أيمان. {كلاَّ}، ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ، وهو دخولهم الجنة بلا إيمان {إِنَّا خلقناهم مما يعلمون}، تعليل للردع، أي: إنَّا خلقناهم من نطفةٍ مَذِرة، فلا يستأهل الكرامة إلاَّ مَن تحلّى بالإيمان والطاعة، وكسا لوث بشريته بنور إيمانه، وحلّها بالتقوى، التي بها العز والشرف والارتفاع في أوج القُربى والكرامة التي محلها الجنة، إنما تكون بمخالفة الطبيعة، وغلبة الروح على الطينة الأرضية، والفرض لعدم ذلك منهم، فلا يطمعون في كرامات الروحانية، مع تمحُّض الطينة الجسمانية، فإنه محال بمقتضى الحكمة. قال أبو السعود: وقيل معناه: إنّا خلقناهم من نطفة مذرة، فمن أين يتشرّفون ويدّعون التقدُّم، ويقولون: لَندخلن الجنةّ قبلهم؟ والفرض أنهم مخلوقون من نطفة قذرة، لا تُناسب عالم القدس، فمَن لم يستكمل الإيمان والطاعة، ولم يتخلّق بأخلاق الملائكة، لم يتأهّل لدخولها. ثم قال: ولا يخفى ما في الكل من التمحُّل، والأقرب: أنه كلام مستأنف، سيق تمهيداً لِما بعده مِن بيان قدرته تعالى، على أن يهلكهم، لكفرهم بالبعث والجزاء، واستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما نزل عليه من الوحي، وادعائهم دخول الجنة بطريقة السخرية، وينشىء بدلهم قوماً آخرين، فإنَّ قدرته على ما يعلمون من النشأة الأولى حجة بيِّنة على قدرته تعالى على ذلك، كما يُفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى: {فلا أُقسم بربِّ المشارِق والمغاربِ}، والمعنى: إذا كان الأمر كما ذكرنا من أنّا خلقناهم مما يعلمون فأُقسم برب المشارق والمغارب {إِنَّا لقادِرون على أن نُبدِّل خيراً منهم} أي: نُهلكهم بالمرة، حسبما تقتضيه جنايتهم، ونأتي بدلهم بخلقٍ آخرين ليسوا على صفتهم. ه. {وما نحن بمسبوقين}؛ بعاجزين، أو بمغلوبين إن أردنا ذلك، لكن مشيئتَنا المبنية على الحِكمة البالغة اقتضت تأخير عقوبتهم. {فَذَرْهم}؛ فدع المكذِّبين {يخوضوا} في باطلهم، التي من جملتها ما حكي عنهم، {ويلعبوا} في دنياهم {حتى يُلاقوا يومَهم الذي يوعدون}، وهو يوم البعث عند النفخة الثانية، يدل عليه قوله تعالى: {يوم يَخرجون من الأجدَاثِ}؛ القبور {سِراعاً}؛ جمع سريع، وهو حال من ضمير «يَخرجون» أي: مسرعين إلى الداعي {كأنهم إِلى نُصُبٍ}، وهو كل ما نُصب وعُبد من دون الله، وفيه السكون والفتح. {يُوفضون}؛ يُسرعون، {خاشعةً أبصارُهم}، ذليلة، لا يرفعونها خوفاً وذِلة، {ترهقهم ذِلةٌ}: يغشاهم هوان شديد، {ذلك} أي: الذي ذكر ما سيقع فيه من الأحوال الهائلة هو {اليومُ الذي كانوا يُوعَدون} في الدنيا، وهم يكذّبون به. الإشارة: فما لأهل الإنكار والغفلة قِبَلك أيها الداعي مسرعين، يُحبون الخصوصية بلا مجاهدة، أيطمع كل امرىءٍ منهم أن يُدخل جنةَ نعيم الأرواح، وهي جنة المعارف، كلاً، إنّا خلقناهم مما يعلمون من الطينة الأرضية، فلا يطمع أحدٌ في الخصوصية، حتى تستولي روحانيتُه على بشريته، ومعناه على حسه، وتخنس الطينية الطبيعية تحت أنوار الحقيقة القدسية. قال الورتجبي: امتنَّ اللهُ على أوليائه الصادقين أنه يلبغهم إلى جواره؛ لأنهم خُلقوا من تربة الجنة، وخُلقت أرواحهم من نور الملكوت، وإلى مواضعها ترجع، وللقائه خَلَقَهم، ومن نوره أوجدهم، وإنَّ أهل الخذلان خُلقوا من عالم الشهواني والشيطاني، ومنبعُهما النار، فيدخلون مواضعهم؛ لأنهم ليسوا من أهل جواره، ونحن لا ننظر إلى ما خلقنا منه من النطفة والطين، ولا نعتبر بهما، نحن نعتبر بالاصطفائية والخاصية في المعرفة، فإنَّ بهما نصل إلى جوار الله تعالى. ه. قلت: والتحقيق أنّ البشرية كلها من الطين، والروح كلها من النور الملكوتي، فمَن غلب منهما فالحُكم له، فإنْ غلبت الروحُ تنوّرت البشرية بأنوار الهداية، وأشرق الباطن بأسرار المعارف، وإن غلبت البشرية تظلّمت الروح، فتارة يبقى لها شعاع الإيمان، وهو مقام أهل اليمين، وتارة ينطمس عنها، وهو مقام الكفر، والعياذ بالله. وقوله: لأنهم خُلقوا من تربة الجنة، أي: من التربة التي رش عليها من ماء الجنة، حتى أضيفت إليها، وقد تقدّم عن القشيري. والله تعالى أعلم. ثم أقسم تعالى على أنه قادر على تبديل الأشباح فيبدل الخبيث إلى الطيب، وبالعكس، على حسب مشيئته، ثم قال: فذر أهل الغفلة يخوضوا في بواطنهم مع الخواطر، ويلعبوا في ظواهرهم في أمور دنياهم، حتى يُلاقوا ما يُوعدون، فيقع الندم حيث لا ينفع. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)} يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّا أرسلنا نوحاً} وهو أول أُلي العزم. قيل: معناه بالسريانية: الساكن، وقيل: سمي له لكثرة نوحه شوقاً إلى ربه، {أنْ أَنْذِر قَوْمَكَ} أي: بأن أنذر، فحذف الجار وأوصل الفعل، ومحله عند الخليل: الجر: وعند غيره: نصب، أو: «أنْ» مفسرة؛ لأنَّ الإرسال فيه معنى القول، فلا يكون للجملة محل، وقُرىء: «أنذر» بغير «أنْ»، أي: خوّف قومك {مِن قبل أن يأتيهم عذابٌ أليم}؛ عذاب الآخرة، أو الطوفان، لئلا يبقى لهم عذر أصلاً. {قال يا قوم}، أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة {إِني لكم نذير مبينٌ}؛ مُنذِر موضّح لحقيقة الأمر، أُبين لكم رسالة ربي بِلُغةٍ تعرفونها، {أنِ اعبدُوا اللهَ} أي: وحّدوه و«أنْ» هذه نحو «أن أنذر» على الوجهين، {واتقوه}؛ واحذروا عصيانه، {وأطيعونِ} فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وإنما أضافه إلى نفسه؛ لأنَّ الطاعة تكون لغير الله بخلاف العبادة، وطاعته هي طاعة الله. {يغفرْ لكم من ذنوبكم} أي: بعض ذنوبكم وهو ما سلف في الجاهلية، فإنَّ الإسلام يَجُبُّه، إلاّ حقوق العباد؛ فإنه يؤديها، وقيل: «مَن» لبيان الجنس، كقوله: {فاجتنبوا الرجس مَنَ الأوثآن} [الحج: 30]. قال ابن عطية: وكونها للتبعيض أبين؛ لكونه لو قال: يغفر لكم ذنوبكم؛ لعَمّ هذا اللفظ ما تقدّم به من الذنوب وما تأخر عن إيمانهم، والإسلام إنما يَجُب ما قبله. ه. قال القشيري: ولأنه لو أخبرهم بغفران ما تقدّم وما تأخّر لكان إغراءً لهم، وذلك لا يجوز. ه. {ويُؤخِّرْكُم إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى} وهو وقت موتكم، فتموتون عند انقضاء آجالكم الذي تعرفونه من غير غرق ولا هلاك استئصال، فإن لم تؤمنوا عاجَلَكم بالعذاب، فيكون هو آجالكم، ولمّا كان ربما يتوهم أنَّ الأجل قد يتقدّم، رَفَعَه بقوله: {إنَّ أَجَلَ اللهِ} وهو الموت عند تمام الأجل {إِذا جاء لا يُؤخَّرُ لو كنتم تعلمون} أي: لو كنتم تعلمون لسارعتم إلى الإيمان قبل مجيئه، فلا حُجة فيه للمعتزلة. وانظر ابن جزي. الإشارة: قال القشيري: إنَّا أرسلنا الروح إلى قومه، وهم: النفس والهوى وصفاتهم الظلمانية الطبيعية؛ أن أنذرهم عن المخالفة الشرعية، مِن قبل أن يأتيهم عذاب القطيعة، قال: يا قوم إني لكم نذير بيِّن الإنذار، أن اعبُدوا الله، بأن تُحبوه وحده، ولا تُحبُّوا معه غيره، من الدنيا، وشهواتها وزخارفها، واتقوا بأن لا تروا معه سواه، وأطيعوني في أقوالي وأفعالي وأخلاقي وصفاتي، يغفر لكم ذنوب وجودكم، فيُغطيه بنور وجوده، ويُؤخركم إلى أجلٍ مسمى، بتسْمية الأزل، إنَّ أجل الله بالموت الحسي والمعنوي، لا يُؤخَّر، لو كنتم تعلمون، لكن انهماككم في حب الدنيا بعّد عنكم الأجل. ه. بالمعنى.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} يقول الحق جلّ جلاله: {قال} نوح شاكياً إلى الله تعالى: {رَبِّ إِني دعوتُ قومي} إلى الإيمان والطاعة {ليلاً ونهاراً} دائماً بلا فتور ولا توان، {فلم يَزِدْهُم دعائي إِلاَّ فِراراً} مما دعوتهم إليه، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده، وإن لم يكن في الحقيقة سبباً للفرار، وهو كقوله: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} [التوبة: 125]، والقرآن لا يكون سبباً لزيادة الرجس، لكن لمّا حصل عنده نُسب إليه، وكان الرجل منهم يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام ويقول له: احذر هذا، فلا يعرنّك، فإنّ أبي قد أوصاني بهذا. ه. {وإِني كلما دعوتُهم} إلى الإيمان بك {لتغفرَ لهم} أي: ليؤمنوا فتغفر لهم، فاكتفى بذكر المسبَّب، {جعلوا أصابعَهم في آذانهم} أي: سدُّوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي، {واستَغْشوا ثيابَهُم} أي: وتغطُّوا بثيابهم لئلا يُبصروني، كراهة النظر إلى وجه مَن ينصحهم في دين الله، {وأصَرُّوا}؛ أقاموا على كفرهم {واسْتَكْبَروا استكباراً} أي: تعاظموا عن إجابتي تعاظماً كبيراً. وذِكْرُ المصدر دليل على فرط استكبارهم. {ثم إِني دَعَوتهم جِهاراً} أي: مجاهراً، فيكون حالاً، أو: مصدر «دعوت»، كقعد القرفصاء؛ لأنّ الجهار أحد نوعَي الدعاء. يعني: أظهرت الدعوة في المحافل والمجالس. {ثم إِني أعلنتُ لهم وأَسررتُ لهم إِسراراً} أي: جَمَعْتُ لهم بين دعاء العلانية والسر، فكنتُ أدعو كل مَن لقيت، فرداً وجماعة. والحاصل: أنه دعاهم ليلاً ونهاراً في السر، ثم دعاهم جِهاراً، ثم دعاهم في السر والعلن، وهكذا يفعل المذكِّر في الأمر بالمعروف، يبتدىء بالأهون فالأشد، افتتح بالمناصحة بالسر، فلما لم يُطيعوا ثنّى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان. و«ثم» تدل على تباعد الأحوال؛ لأنَّ الجِهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما. {فقلتُ استغفِروا ربكم} بالتوبة من الكفر والمعاصي فالاستغفار: طلب المغفرة، فإن كان المستغفِر كافراً فهو من الكفر، وإن كان مؤمناً فهو من الذنوب، {إِنه كان غفَّاراً} لم يزل غَفَّار الذنوب لمَن يُنيب إليه، {يُرسل السماءَ} بالمطر {عليكم مِذراراً}؛ كثير الدُّرور، أي: البروز، و«مِفعال» يستوي فيه المذكر والمؤنث، {ويُمددكم بأموال وبنينَ} أي: يزدكم أمولاً وبنين على ما عندكم، {ويجعل لكم جنات}؛ بساتين {ويجعل لكم أنهاراً} جارية لمزارعكم وبساتينكم. وكانوا يُحبون الأموال والأولاد، فحرّكوا بهذا على الإيمان، وقيل: لمّا كذّبوه بعد طول تكرار الدعوة حبس الله عنهم القطر، وأعقم نساءهم أربعين سنة، أو سبعين، فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخِصب، ورفع عنهم ما كانوا فيه. وعن عمر رضي الله عنه: أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار، فمُطر فقيل له: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد استقيت بمجاديح السماء التي لا تخطىء، ثم قرأ الآية. وفي القاموس: ومجاديح السماء: أنواؤها. ه. وشكى رجلٌ إلى الحسن الجدوبة، فقال له: استغفِر الله، وشكى إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة غلة أرضه، فأمرهم كلّهم بالاستغفار، فقيل له في ذلك، فقال: ما قلت من عندي شيئاً، ثم تلا الآية. {ما لكم لا ترجون لله وَقَاراً} أي: لا تخافون لله عظمةً. قال الأخفش: الرجاء هنا: الخوف؛ لأنّ مع الرجاء طرفاً من الخوف واليأس. والوقار: العظمة. وقال أبو السعود: الرجاء هنا بمعنى الاعتقاد. وجملة (ترجون): حال من ضمير المخاطبين، و«لله» متعلق بمضمر، حال من (وقارا)، ولو تأخر لكان صفة له، أي: أيُّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة للتعظيم بالإيمان والطاعة. ه. أو: لا تأملون له توقيراً، أي: تعظيماً، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيه تعظيم الله إياكم في دار الثواب، {وقد خَلَقَكم أطواراً} في موضع الحال، أي: ما لكم لا تؤمنون بالله، والحال أنكم على حال منافية لِما أنتم عليه بالكلية، وهي أنكم تعلمون أنه خلقكم أطواراً، أي: أحوالاً مختلفة، خَلَقَكم أولاً نُطفاً، ثم خلقكم علقاً ثم مُضغاً، ثم عظاماً ولحماً، ثم إنساناً، ثم خلقاً آخر، وبعد ظهوره إلى هذا العالم يكون شباباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، بالتقصير في توقير مَن هذه شؤونه من القدرة القاهرة والإحسان التام، مع العلم بها، مما لا يكاد يصدر عن العاقل. والله تعالى أعلم. الإشارة: ينبغي للداعي أن يكون على قدم أولي العزم، لا يمل من التذكير والدعاء إلى الله، ويكرر ذلك ليلاً ونهاراًن ولو قُوبل بالرد والإنكار، فلأن يهدي الله به رجلاً واحداً خير له مما طلعت عليه الشمس. وقوله تعالى: {وأصَرُّوا واستكبروا}، قال القشيري: ويقال: لَمَّا دام إصرارهُم تَولَّدَ منه استكبارُهم، قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]. وقال الورتجبي: مَن أصرَّ على المعصية أورثه التمادي على الضلالة، حتى يرى قبيح أفعاله مستحسناً، فإذا رآه مستحسناً يستكبر، ويعلو على أولياء الله، ولا يقبل بعد ذلك نصحتهم. قال سهل: الإصرار على الذنب يورث الاستكبار، والاستكبار يورث الجهل، والجهل يورث التخطي في الباطل، وذلك يورث قساوة القلب، وهي تورث النفاق، والنفاق يورث الكفر. ه. وقوله تعالى: {استغفِروا ربكم} قال القشيري: ليعلم العاملون أنَّ الاستغفار قَرْعُ أبوابِ النعمة، ومَن وقعت له إلى الله حاجة فلا يَصِل إلى مرادِه إلاّ بتقديم الاستغفار. ويقال: مَن أراد التفضُّل فعليه بالعُذْر والتنصُّل. ه. وقوله: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} أي: ما لكم لا تعتقدون لله تعظيماً وإجلالاً، فلا تراقبونه، ولا تخافون سطوته، فإنَّ المشاهدة على قدر المراقبة، فمَن لم يُحْكِم أمر المراقبة لم يظفر بغاية المشاهدة. وقد خلقكم أطواراً، أي: درّج بشريتكم في أطوار مُختلفة، وهي سبعة: النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم الجنين، ثم الطفولية، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم يرتحل إلى دار الدوام، وكذلك الروح لها سبعة أطوار: التوبة ثم الورع، ثم الزهد، ثم التوكُّل، ثم الرضاء والتسليم، ثم المراقبة، ثم المشاهدة. والله تعالى أعلم.
{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)} يقول الحق جلّ جلاله: {ألم تَرَوْا كيف خلق اللهُ سبعَ سمواتٍ طباقاً} أي: متطابقة بعضها فوق بعض، والرؤية هنا علمية؛ إذ لا يُرى بالبصر إلاَّ واحدة، وعُلِّقت بالاستفهام، وعلمهم بذلك من جهة الوحي السابق، أو كانوا منجّمين، {وجعلَ القمرَ فيهن نوراً} أي: يُنور وجه الأرض في ظلمة الليل، ونسبتُه إلى الكل مع أنه في سماء الدنيا؛ لأنَّ بين السموات ملابسة، من حيث إنها طباق، فجاز أن يقال: فيهن، وإن لم يكن في جميعهن، كما يُقال: في المدينة كذا، وهو في بعض جوانبها. وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: إن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السموات، وظهورهما مما يلي الأرض. فيكون نور القمر سارياً في جميع السموات؛ لأنها لطيفة لاتحجب نوره. {وجعل الشمسَ سِراجاً}؛ مصباحاً يزيل ظلمة الليل، ويُبصر أهلُ الدنيا في ضوئها وجه الأرض، ويُشاهدون الآفاق، كما يُبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، وليس القمر بهذه المثابة، إنما هو نور في الجملة، فنور الشمس أقوى، ومنه يستمد نور القمر، وأجمعوا أنَّ الشمس في السماء الرابعة. {واللهُ أنبتكم من الأرض نباتاً} أي: أنشأكم منها، فاستغير الإنبات للإنشاء؛ لكونه أدل على الحدوث والتكوُّن من الأرض. و«نباتاً» إمّا مصدر مؤكد لأنبتكم، بحذف الزوائد، ويسمى اسم مصدر، وحكمة إجراء اللفظ فيه على غير فعله: التنبيه على تحتُّم القدرة وسرعة نفوذ حكمها، حتى كأنَّ إنبات الله تعالى نفس النبات، فقرَن أحدهما بالآخر، ونحوه قوله تعالى: {أّنِ اضرب بِعَصَاكَ الحجر فانبجست} [الأعراف: 16] أي: فضرب فانبجست، فجعل الانبجاس مسبباً عن الايحاء، للدلالة على سرعة نفوذ حكم القدرة، أو: لفعل مترتب عليه، أي: أَنبتكم فنبتم نباتاً، {ثُم يُعيدكم فيها} بعد الموت {ويُخرجكم} يوم القيامة بالبعث والحشر {إِخراجاً} محققاً لا ريب فيه، ولذا أكّده بالمصدر. {واللهُ جعل لكم الأرضَ بِساطاً} تتقلبون عليها تقلُّبكم على بُسُطكم في بيوتكم. قال ابن عطية: وظاهر الآية أنَّ الأرض بسيطة غير كُروية، واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في الشرع، إلاّ أن يترتب على القول بالكوريّة قول فاسدٌ، وأما اعتقاد كونها بسيطة فهو ظاهر في كتاب الله، وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتةَ، واستدل ابن مجاهد على ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور، قال: لو كانت الأرض كروية لما استقر الماء عليها. ه. المحشيّ الفاسي: وهو بعيد؛ لأنَّ أهل الهيئة يرون أنها مستقرة فيه اي: في البحر لا العكس، ولذلك أُرسيت بالجبال لتستقر، كما عُلم من الشرع. ه. قلت: وإنما حَكَمَ الحقُّ تعالى ببساطتها باعتبار ما يظهر للعين في ظاهر الأمر. والله تعالى أعلم. وتوسيط (لكم) بين الجعل ومفعوليه، مع أنَّ حقه التأخير، للاهتمام بشأن كون المجعول من منافعهم، وللتشويق إلى المؤخّر، فإنَّ النفس عند تأخُّر ما حقه التقديم تبقى متشوقة مترقبة، فيتمكن عند ورودها له فضل تمكُّن، أي: بسطها لكم في مرأى العين {لتسلكوا منها سُبلاً فِجاجاً} أي: طُرقاً واسعة، جمع فج، وهو الطريق الواسع، وقيل: هو المسلك بين الجبلين، و«منها» متعلق ب «تسلُكوا» لِما فيه من معنى الاتخاذ، أو: بمضمر هو حال من «سُبلاً» أي: كائنة منها، ولو تأخر لكان صفة لهما. الإشارة: تقدّم تفسير سبع سموات الأرواح، والقمر قمر التوحيد البرهاني، والشمس: شمس المعرفة، والله أنبت بشريتكم من الأرض نباتاً، ثم يُعيدكم فيها بالبقاء بعد الفناء؛ لتقوموا برسم العبودية، ثم يُخرجكم منها إلى صعود عرش الحضرة، والله جعل لكم أرض العبودية بِساطاً؛ لتسلكوا منها إلى الله في طرق واسعة، قررها أئمة الطريق من الكتاب والسنّة وإلهام العارفين ومواجيد العاشقين. وبالله التوفيق.
{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)} يقول الحق جلّ جلاله: {قال نوحٌ ربِّ} أي: يارب {إِنهم عَصَوْنِي} أي: داموا على عصياني فيما أمرتهم، مع ما بلغت في إرشادهم بالعظة والتذكير، ولمّا كان عصيانهم مستبعداً لكونه منكراً فظيعاً؛ لأنَّ طاعة الرسول واجبة، فأصرُّوا على عصيانه، وعاملوه بأقبح الأحوال والأفعال، أكّد الجملة بإنَّ، {واتَّبعوا} أي: اتبع فقراؤهم {مَن لم يزده مالُه وولدُه إِلاَّ خساراً}، وهم رؤساؤهم، أي: استمروا على اتباع رؤسائهم، الذين أبطرتهم أموالُهم، وغرّتهم أولادُهم، وصار ذلك سبباً لزيادة خسارهم في الآخرة، فصاروا أسوة لهم في الخسران. وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم إنما ابتعوهم لوجَاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد، لِما شاهدوا فيهم من شبهة مصحِّحة للاتباع في الجملة. ومَن قرأ بسكون اللام فجمع ولد، كأسَد، وأُسْد. {ومَكَروا}: عطف على صلة «مَنْ»، والجمع باعتبار معناه، كما أنَّ الإفراد في الضمائر الأُوَل باعتبار لفظها، والماكرون هم الرؤساء، ومكرهم: احتيالهم في الدين، وكيدهم لنوح، وتحريش الناس على أذاه، وصد الناس عن الميل إليه، {مكراً كُبّاراً}؛ عظيماً في الغاية، وهو أكبر من «الكُبَار» بالتخفيف، وقُرىء به، والكُبَّار: أكبر من الكبير، وقُرىء شاذًّا بالكسر جمع كبير. {وقالوا لا تَذَرُنَّ آلهتكم} أي: لا تتركوا عبادتها على العموم إلى عبادة رب نوح، {ولا تَذَرُنَّ وَدًّا} بفتح الواو، وضمها لغتان: صنم على صورة رجل، {ولا سُوَاعاً}؛ صنم على صورة امرأة، {ولا يَغُوثَ}؛ صنم على صورة أسد، {وَيَعُوقَ}؛ صنم على صورة فرس، وهما لا ينصرفان للتعريف ووزن الفعل إن كانا عربيين، والتعريف والعُجمة إن كانا عجميين، {ونَسْراً}؛ صنم على صورة النسر، وخصُّوا بالذكر مع اندراجهم فيما سبق؛ لأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، وقد انتقلت هذه الأصنام عنهم إلى العرب، فكان وَدّ لكلب، وسُواع لهمدان، ويغوث لمَذْحِج، ويَعُوق لمُراد، ونَسْر لحمير. وقيل: هي أسماء رجال صالحين، كان الناس يقتدون بهم، بين آدم ونوح عليهما السلام، وقيل: أولاد آدم، فلما ماتوا، قال إبليس لمَن بعدهم: لو صوّرتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم، وتتبرّكون بهم، ففعلوا، فلمّا مات أولئك، قال لمَن بعدهم: إنهم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم. وقال ابن عباس رضي الله عنه: أول ما عُبِدَ من الأصنام في زمن مَهْلائِل بن غَيْنَان بن أنوش بن شيت بن آدم عليه السلام، وذلك لمّا مات آدم جعله بنو شيت في مغارة بأرض الهند، في جبل سرنديب، لموضع يسمى نوره، وهو أخصب جبل في الأرض، ثم كانوا يزورونه، ويترحّمون عليه، ويُعطمونه، فلما قَتَل قابيلُ أخاه هابيل نفوه من الأرض، فكان بمعزل عنهم هو وبنوه، فجاء الشيطانُ في صورة رجل ناصح، فقال لهم: إنَّ بني شيت يتبرّكون بآدم، وأنتم لا تلحقونه، فانحتوا صورته، وتبرَّكوا بها، ففعلوا، ثم كان لشيت ولد صالح، اسمه يغوث، فتُوفي، فكانوا يتبرّكون بقبره، فنحتَ أولادُ قابيل على صورة يغوث صورة أخرى، ثم يعوق، ثم ود، ثم سواع، ثم نسر، كلهم من أولاد شيت قوم صالحون، كانوا يتبرّكون بهم في المحْيا والممات، ولم يكن لأولاد قابيل سبيل إليهم، فنحتوا صورهم، وصاروا يُعظِّمونها، ويتبرّكون بها مثلهم، فلما طال بهم الزمان صاروا يعبدونهم دون الله، إلى أن بعث الله نوح عليه السلام فنهاهم عنها، فلم ينتهوا، فلما أهلك الله الأرض ومَن عليها بالطوفان، قذف الطوفانُ تلك الأصنام إلى أرض جُدة وما والاها من مكة، وأخفتها الرمال هناك. قال الكلبي: وكان عَمرو بن لُحي كاهناً، يُكنّى أبا تمامة وكان يتراءى له الجن، فتراءى له يوماً جنِّي، وقال له: عَجِّل أبا تمامة بالسعد والسلامة إلى صف جدة، واستخرج ما فيها من الأصنام، وأوردها ماء تهامة، ولا تسأم ولا تهب، وادْع العرب إلى عبادتها تُجَب، فأتى عمرُو بن لُحي ساحلَ جدة، حيث وصف له الجني، واستخرج الأصنام في خِفية عنهم، وأرودها ماء تهامة، فلما حضر الحج، واجتمع الناس إلى الموسم، دعا الناس إلى عبادتها، فأجابته العرب قاطبة، وأول مَ أجابته بنو عوف بن عُزرة، فدفع لهم ودًّا، فنصبوه بواد القرى بدومة الجندل، ولم يزل عندهم إلى الإسلام، فكسره خالد بن الوليد، لَمَّا بعثه الرسولُ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لهدم دومة الجندل فحالت بينه وبينها العرب فقاتلهم وكسَّر صنمهم. قال: الكلبي: قلت لمالك بن الحارث: صف لي ودًّا، وكان قد رآها مراراً، قال: تمثال رجل أعظم ما يكون من الرجال، مؤتزر بحُلة، مرتدٍ بأخرى، مقلَّداً سيفاً، راكباً فرساً، وفي يده حربة فيها لواء، ومعه قوس، ونبل في جعبة. ه. ثم دفع عمرو لمُضر سُواعاً، فعكفت على عبادته مع هُذيل، ثم فرّق تلك الأصنام على القبائل على حسب ما تقدّم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيتُ عمْرو بن لُحي ليلة أُسري بي رجلاً أحمر، قصيراً أزرق، وهو يَجُرُّ قُصْبَهُ في النار، لأنه أول مَن بَحَّرَ البَحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام، وغيّر دين إسماعيل»، وهو من خزاعة، كان يسكن مكة، فولد بها أولاداً فكثروا، فنفوا مَن كان منها من العماليق. انظر اللباب. ثم قال تعالى: {وقدْ أَضلوا} أي: الرؤساء، أو: الأصنام، كقوله: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ الناس} [إبراهيم: 36] {كثيراً} أي: خلقاً كثيراً، {ولا تزد الظالمين إِلاَّ ضلالاً}، قال المحشي: وقد يقال: إن هذه الجملة مسببة عما قبلها فحقها الفاء، لكن تُركت لمكان الاستئناف، أي: البياني، كأنه قال: فما تريد بهذا القول؟ فقال: ولا تزد الظالمين. ه. ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالظلم المفرط، وتعليل الدعاء عليهم به. والمراد بالضلال: الهلاك، كقوله: {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47]. {مما خطيئاتِهم} أي: من أجل خطيئاتهم. «وما» مزيدة للتوكيد والتفخيم، {أُغرقوا} بالطوفان. وتقديم «مما» لبيان أن إغراقهم ودخولهم النار، إنما كان لأجل خطاياهم، لا لسبب آخر، {فأُدْخِلوا ناراً} عظيمة، والمراد: إمّا عذاب القبر؛ لأنه عقب الإغراق، أو حين كانوا في الماء، فقد رُوي أنهم كانوا يغرقون من جانب، ويُحرقون من جانب. أو: عذاب جهنم، والتعقيب لقربه باعتبار تحقُّق وقوعه. وتنكير «النار» إما لتعظيمها وتهويلها، أو لأنه تعالى أعدّ لهم نوعاً من العذاب على حسب خطيئاته، {فلم يجدوا لهم من دون اللهِ أنصاراً} ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله، وفيه تعريض بعدم نفع آلهتهم، وعدم قدرتهم على نصرهم. قيل: كان قوم نوح أهل وُسع في الزرق، فطَغوا، وكانوا يؤذون نوحاً، ويحرشون عليه ويضربونه، حتى ربما يغشى عليه، فإذا أفاق قال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». كما في الحديث. {وقال نوحٌ رَبِّ لا تَذّرْ على الأرض من الكافرين ديَّاراً} أي: أحداً يدور في الأرض، وهو «فَيْعَالٌ» من الدّورِ، وهو من الأسماء المستعلمة في النفي العام، يقالك ما بالديار ديَّار وديّور، كقيّام وقيوم، أي: أحد، وأصله: دّيْوار، ففعل به ما فعل بسَيِّد. {إِنك إِن تَذَرْهُم} ولا تهلكهم {يُضلُّوا عبادك} عن طريق الحق، يدعوهم إلى الضلال، {ولا يلدوا إِلاَّ فاجراً كفاراً} أي: إلاّ مَن إذا بلغ جحد وكفر، وإنما قال ذلك؛ لاستحكام علمه بما يكون منهم ومن أعقابهم، بعدما خبرهم واستقرأ أحوالهم قريباً من ألف سنة، أو: يكون بعد إخباره تعالى له بقوله: {أَنَّهُ لِن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ} [هود: 36]. {رَبِّ اغفر لي ولوالدي} وكانا مسلمَين، واسم أبيه: لَمَك بن مُتَوشْلح، واسم أمه: شمخاء بنت أنوش، وقيل: المراد: آدم وحواء. قال ابن عباس: لم يكفر بنوح والد بينه وبين آدم عليه السلام، وقُرىء: «ولولديّ» يريد ساماً وحاماً، {ولِمَنْ دَخَلَ بيتي} أي: منزلي، أو مسجدي، أو سفينتي {مؤمناً}، ولعله قد علم أنَّ مَن دخل بيته مؤمناً لا يعد إلى الكفر، وبهذا القيد خرجت امرأته وابنه كنعان، ولم يجزم عليه السلام بخروجه إلاَّ بعدما قيل له: {إِنَّهُ لِيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]، {وللمؤمنين والمؤمنات} إلى يوم القيامة. خصَّ أولاً مَن يتصل به؛ لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عمَّم، {ولا تزد الظالمين} أي: الكافرين {إلاَّ تباراً}؛ إهلاكاً. قال ابن عباس رضي الله عنه: دعا نوح عليه السلام بدعوتين، إحداهما: للمؤمنين بالمغفرة، وأخرى على الكفارين بالتبار، فاستجيب على الكافرين، فاستحال ألاَّ تُجاب دعوته في حق المؤمنين. واختلف في صبيانهم: هل أُغرقوا؟ فقيل: أعقم اللهُ أرحامَ نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة، فلم يكن منهم صبي حين أُغرقوا، وقيل: أهلك أطفالهم بغير عذاب، ثم أغرق كبارهم، وقيل: غرقوا معهم كما غرق سائر الحيوانات، وهو المشهور؛ لأنّ المصيبة تعم، ثم يُبعثون على نياتهم. والله تعالى أعلم. الإشارة: وقال نوحُ الروح، أي: شكت الروح إلى ربها، وقالت: إنَّ النفس وجنودها عَصَوني، واتبعوا حال المنهمكين في الدنيا، الفانين في أموالهم وأولادهم، فلم يزدهم ذلك إلاّ خساراً، ومكروا بي، حيث راموا مني الميل إليهم، مكراً كُبَّاراً، وقالوا: لا تَذَرُنَّ آلهتكم من الدنانير والدراهم، ولا تَذَرُنَّ ود الدنيا ومحبتها، ولا سُواع الهوى والحظوظ، ولا يغوث الرياسة والجاه، ولا يَعوق العلائق والشواغل، ولا طيور الهواجس والخواطر، يعني: لا تستعملوا ما يُخرجكم عن هذه الأشياء، مِن خرق العوائد، والزهد، والورع، بل أقيموا على تنمية دنياكم، وتوفير هواكم، وقد أضلُّوا كثيراً ممن يقتدي بهم. وقالت أيضاً: لا تزد الظالمين من هؤلاء إلاّ ضلالاً؛ هلاكها وانقطاعاً. مما خطيئاتهم أُغرقوا في بحر الدنيا، فأُدخلوا نار القطيعة، فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً، وقال نوح الروح أيضاً: لا تَذرْ على أرض البشرية من الكافرين من القواطع التي تقطعني عن السير بظلمتها ديّاراً ممن يدور بها، ويُقوي حسها، إنك إن تذرهم يدورون بها ويقطعونها عن السير، ويُضلوا عبادك عن الوصول إليك، ولا يلدوا منها إلاَّ خاطراً فاجراً كفّاراً. رَبِّ اغفر لي، خطابٌ من الروح ودعاء، ولوالدي من العقل الكلي، والنفس الكلي، وهو الروح الأعظم، ولِمن دخل بيتي، أي: تمسّك بطريقتي، ودخل في زمرتي، ولأرواح المؤمنين والمؤمنات، ولا تزد الظالين الخارجين عن طريقتي إلاَّ تباراً. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم.
|